وجهة نظر.. بين القدامة والحداثة

أنت دقة قديمة .. أفكارك و قيمك أصبحت عديمة و ليس لها قيمة.. في زماننا الحالي الذي يحتاج كل لعيب وفهيمة.. بالبيضة والحجر يلعب.. وعلى كل لون يقلب.. حسب المواقف يتغير ويتشلقب.. مجاملا من يقف أمامه إذا كان عنده مصلحة أو حاجة يقضيها في عالمنا المتغير.. عالمنا الذي أصبحت فيه كل الحاجات تقضى عنوة.. وكلً له غنوة..

رجعية.. متخلفة.. اتُـهم أنا.. إذا ما خالفت مسايرة القطيع في القول أو الفعل.. ومسايرة الرأي المطيع.. الموافق على كل ما يقولونه عن كل أمر.. وإذا خالفت الرأي يصبح شيئا فظيع.. كائن غريب أنا.. من كوكب آخر قادم.. يعيش وحيدا في مدينته الفاضلة بقيمه ومثاليته المتأصلة.

وقد اتُهم بالإنفتاحية وتبنى القيم العصرية.. المتعارضة مع التقليدية ونمط الحياة الشرقية.. وخاصة المعتقدات الشرنقية والعقول الحجرية.. وعلى الرغم من تلقيها العلم واجتيازها لبعض المراحل التعليمية.. إلا أنها ما زالت عقول عندية.. تتشبث بأفكارها الجامدة الرافضة للجدلية العقلانية واللين لتقبل الرأي الآخر ومعرفة الاتجاهات الحداثية..

سيدي.. كلً له رأيه.. يرى الأشياء من وجة نظره.. وبناء على وجة النظر.. يتخذ السلوك والتصرف.. وبين مفهوم الخطأ والصواب نتأرجح.. نحاول أن نتبى الرأي الذي نعتقد أنه السديد الأرحج. فوجهات النظر تختلف بناء على المنطلقات الثقافية والقيم الخلقية التى تربينا عليها..

فمثلا.. سيدنا نوح (عليه السلام) كان يبني سفينته.. والكل يتعجب منه ويسخر.. قام ببناء سفينته لهدفً يعلمه وحده ألهمه الله به.. وعلى ضوء علمه قام بفعله (بناء السفينة) الذي سخر الناس منه.. وهكذا نحن نقوم بأفعالنا بناء على ما لدينا من معرفة وقناعات وإحاطة بظروف وأوضاع معينة.. ظروف وأوضاع قد لا يدركها الآخرون.. ولهذا يسخرون منا وينكرون.. وقد يصل الأمر إلى اتهامنا بالجنون.  

فكل منا له أساليبه الحياتية ومنهجه في معالجة شئون حياته الخصوصية.. والخطأ والصواب مفاهيم نسبية تختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر حسب الزمان والمكان.. فالمعتقد أو الرأي الذي كان يصف على انه خطأً في الماضي.. يمكن أن يصنف على أنه صواب في الوقت الحاضر.. وما هو صحيح وشرعي ومقبول في مجتمع ما.. يمكن أن يكون غير مقبول في مجتمع آخر. بل وتختلف نسبية الخطأ والصواب أيضا من فئة طبقية لأخرى ومن شخص لأخر..

ويلاحظ أن المتبنين لرأي أو اتجاه سلوكي ما.. يحاولوا جاهدين التأثير على من حولهم المتبنين لاتجاه سلوكي مغاير.. محاولين استعراض كل الحجج لإثبات وجهة نظرهم.. وأن موقفنا الذي نتشبث به ما هو إلا عبارة عن مجموعة من العقد..

فالحريص على أداء مهامه الوظيفية بإخلاص وجدية.. يُتهم بأنه معقد ومحبكها.. عنده زمة ولا يريد أن يخالفها ويربكها. والرافض للفساد والرشوة ينظر إليه ككائن غريب آتى بأمر مريب.. وتتوالى المحاولات لإقناعه بأن هذا ليس من قبيل الخطأ.. سميها عمولة ممكن.. أو حق يؤخذ من صاحب المصلحة كمساعدة في تلبية أعباء المعيشة..

المدرس الخصوصي المراعي لضميره الذي يسعى لتحسين دخله دون جشع أو حرص على تراكم الخميرة.. يسخر منه الآخرين قائلين.. أصل أنت لا تعاني ما نحن نعاني.. غلاء معيشة.. والمدام عايزة تغير العربية وتجدد أثاث الشقة وموبيل حديث و.. و.. وتتوالى الواوات.. غير مبالين بما يشعر به الأهالي من آهات.

والمبتغي للمشاركة التطوعية ومساعدة الآخرين.. يقال له: أنت أهبل.. أنت عبيط.. شاغل نفسك بهذه اللاخبيط.. خليك في حالك وأمشي جنب الحيط..

والطالب الذي يحاول الإنكباب على دراسته وأخذ الأمور بمأخذ الجدية.. ينقده الأخرين قائلين.. يا عم أنت عامل زي الموس.. في الأخر هاتقعد في البيت وتضرب بوز..

والذي يحاول استكمال دراساته العليا.. يجد من يهبط من عزمه ويقال له.. يا عم ليه تتعب نفسك وفي العلم تغوص.. بلا علم بلا باذنجان.. خلينا عايشين في الهذيان.

شخص يقول لصديقة.. خد لك سيجارة وعيش.. أعمل دماغ وخليك لذيذ..هو حد واخد منها حاجة يا عزيز.. الزمن ده عايز كدة.. أدبك وخلقك مش هاينفعك بقة..      

والفتاه التى تحاول الحفاظ على أدبها وخلقها.. يقال لها.. أنت ليه معقدها.. كدة هاتفضلي قاعدة في الخزانة.. لازم تخرجي.. لازم تعرفي وتتكلمي.. علشان زوج المستقبل تنشني وتعلمي..

مواقف ومفارقات كثيرة نواجهها في حياتنا وتزيد من آهاتنا.. والصراع بين الرؤى والاتجاهات السلوكية بين القدامة والحداثة والعيش في اللذاذة.. صراع مستمر ومستديم.. إلا انه قد تزايد بصفة خاصة في الوقت المعاصر.. ولكن علينا الانتقاء بعقلانية للقيم الإيجابية من القدامة والحداثة غير متأثيرين بالساخرين والناقدين والمنادين بالعيش في اللذاذة.. الذين يحاولون جاهدين تعميم أراءهم وتوجهاتهم ونشرها بين من حولهم ممن يخالفونهم وجهة النظر.. "ولولا أني شجرة مثمرة لما رميت بالحجر".

فكل له رؤيته ووجهة نظره التى يؤمن بها.. وعلى أساسها يعيش بطريقته ويؤدي عمله.

د. نهلة درويش

دكتوراة في الآداب – علم الاجتماع

19/12/2010