لقد كسب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس
من حوله .ذكر أنس رضي الله عنه صورة من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام فقال (( إن امرأة كان في عقلها شئ جاءته
فقالت إن لي إليك حاجة قال اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي
حاجتك قال فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى فرغت من حاجتها)) وعند البخاري : إن كانت
الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها ودخل عليه رجل فأصابته
من هيبته رعدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هون عليك فإني لست بملك إنما
أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )) وبهذا الأسلوب والتواضع ولين
الجانب دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شغاف قلوب الناس من حوله .
أما الظهور بمظهر الأستاذية
والنظر إلى المسلمين نظرة دونية فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة . ((قال أنا خير منه خلقتني من نار
وخلقته من طين )) ص،
الآية :76 .وقد قال صلى الله عليه وسلم (( من كان هيناً ليناً سهلاً حرمه
الله على النار))
إليك – أخي
الحبيب – هذا السخاء وذلك الجود يأسر القلوب
ويطيب النفوس... فعن أنس رضي الله عنه قال: (( إن رجلا سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع
إلى بلده وقال :أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة )) فانظر وفقك الله
كيف أثر هذا السخاء النبوي على قلب هذا الرجل وجعل منه – بإذن
الله – بعد أن كان حرباً على الإسلام أصبح
داعية إليه .
وعن جابر رضي الله عنه قال ((
ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا)) ومن الجود
الهدية وقد قال صلى الله عليه وسلم (( تهادوا تحابوا )) فالهدية باب من أبواب كسب
القلوب وتنمية التآلف بينها .
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) بل الرفق مفضل على كثير من
الأخلاق؛لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في
الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره .. لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي بالرفق
ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه )) .
ومن المواطن التي يتأكد فيها
الرفق عند تقويم خطأ الجاهل. وانظر الي هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند
خطئهم والتي يملؤها الرفق والرحمة .
فعن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه- قال ((بينما أنا أُصلي مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك
الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون
بأيديهم على أفخاذهم فما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوا الله
ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام
الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران )) أو كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن
منا رجالا يأتون الكهان قال (( فلا تأتهم ))قلت ومنا رجال يتطيرون قال (( ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا
يصدنهم )) .
والأمثلة على ذلك كثيرة كحديث
الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للشاب الذي استأذنه بالزنا وحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام
معه .
وفي الجملة ؛ فإن الذي ينظر إلى
هذه الوسائل يجد أنها لا تكاد تخرج عن دائرة الأخلاق ، فالتزامها إنما هو التزام
بالخلق الحسن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم
خلقا))
وقبل هذا وكله و بعده لا بد أن
نذكرك بملاك ذلك كله وهو الإقبال على الله الإقبال على رب القلوب ونيل محبته لحديث
أبى هريرة – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل
فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له
القبول في أهل الأرض) ) وحسبك بداعية قد وضع الله له القبول في أهل الأرض قال ابن
حجر رحمه الله ((والمراد بالقبول : قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه بالرضا عنه
))
وزاد الإمام مسلم رحمه الله ((
وإذا أبغض عبداً دعا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل فينادي جبريل في
أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في
الأرض )) والعياذ بالله .
المنفرات
لا شك أن مساوئ الأخلاق عموماً
من أشد الأمور تنفيراً للناس عن الداعية ،إذا اتصف بشيء منها،بيد أننا سنخص بعض
المنفرات لما لها من الأثر الكبير في تنفير الناس وانفضاضهم ،ومن هذه المنفرات:
أولا عدم مراعاة أحوال الناس وظروفهم.. وقد نبه الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى الأمر فقال لمعشر الدعاة ((
إذا صلى أحدكم
بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما
شاء )) فهي
وصية من داعية هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام لجميع الدعاة بضرورة مراعاة
أحوال الناس في ركن من أهم أركان هذا الدين ؛لذا فمراعاة الناس فيما دون ذلك مرتبة
من العبادات والمعاملات من باب أولى .
وإليك هذه الحادثة التي تدل على
أن إغفال هذه الوصية يؤدي إلى نفرة الناس وربما يسبب تركهم للعمل الصالح أو تأخرهم
عنه .
كان معاذ يصلي مع النبي صلى
الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع
النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم
فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له أنافقت يا فلان
؟ قال لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه فلأخبرنه فأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وأن معاذاً صلى معك
العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ
فقال : (( أفتان
أنت ؟ اقرأ بكذا اقرأ بكذا ( وفي رواية : أفتان أنت ثلاثا ؟! اقرأ الشمس وضحاها
وسبح اسم ربك الأعلى ونحوهما ))
ثانياً التعلق بمتاع الدنيا
وزخرفها : وهذا
المنفر أصله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد
فيما عند الناس يحبك الناس )) فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نكسب الناس وننال
محبتهم وذلك بالزهد فيما في أيديهم لأننا إذا تركنا لهم ما أحبوه أحبونا وقلوب
أكثرهم مجبولة مطبوعة على حب الدنيا ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه ومن لم
يعارضه فيه أحبه واصطفاه قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريما على الناس ما لم
يطمع فيما بين أيديهم فحينئذ يستخفون به ويكرهون حديثه ويبغضونه .
وقال أعرابي لأهل البصرة من
سيدكم ؟ قالوا الحسن قال بم سادكم ؟ قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن
دنياهم ، فقال: ما أحسن هذا.
ثالثاً الغلظة والفظاظة : وهذا المنفر أصله قول الحق عز
وجل لسيد الدعاة عليه أفضل الصلاة والسلام ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو
كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران الآية 159. وما من شيء أشد تنفيراً للناس عن الحق
والخير مثل دعوتهم إليه بالغلظة والخشونة .
ولقد انحسر أثر بعض الدعاة
المخلصين في الناس ولم يوفقوا إلى إيصال ما لديهم من حق إلى عموم المسلمين وغيرهم لأنهم
أخطأوا الأسلوب الذي يفتحون به قلوب الناس وعقولهم فغلب عليهم الجدل بالتي هي أخشن
والمواجهة بالغلظة والحدة .
رابعاً : مخالفة القول العمل : ما أشد بغض الناس لداعية خالفت
أفعاله أقواله وما أعظم نفرتهم ؛ بل ما أكبر مقت الله عز وجل لهذه الصفة الخسيسة ،
حيث يقول عز وجل: ( يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن
تقولوا ما لا تفعلون ) الصف الآيتان : 2 ،3
ولقد أنكر الله سبحانه على
أقوام يأمرون الناس بالبر ويدعون أنفسهم في غيها ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) البقرة الآية : 44
ولذلك قال شعيب لقومه ما أخبرنا
الله به حيث يقول الله تعالى على لسانه : ( و ما أريد أن أخالفكم إلى ما
أنهاكم عنه إن أريد الاّ الإصلاح ما استطعت ) هود الآية 88 . ولكن لابد من
الإجابة على شبهة يرددها بعض الناس نعرضها على شكل سؤال.. وهو هل يترك الداعية
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة عدم تمكنه من فعله ؟
قال ابن كثير رحمه الله : فكل
من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قول العلماء من
السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف .
والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، قال
سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه
شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . قلت القائل –ابن كثير - : لكنه والحالة
هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية
لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فانه ليس من يعلم كمن لا يعلم " .
خامساً : التعسير والتعقيد : هناك فريق من الناس يبحثون عن
كل صعب ومعسر ليقدموه للناس على أنه الإسلام
، دون مراعاة ليسر الإسلام ورفعه للحرج عن الناس . وهذا خلاف لما كان عليه أفضل
الصلاة والسلام حيث قالت عنه عائشة رضي الله عنها :" ما خير بين أمرين قط إلا
اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه" ولما
للتيسير – في حدود الشرع – من أثر في تأليف القلوب وزيادة ربطها بهذا الدين نادى
الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاة قائلا : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا
تنفروا ". قال النووي : لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيراً
فقال :"ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال ، وكذلك في قوله
:" ولا تنفروا " والمراد تأليف من قرب إسلامه ، وترك التشديد عليه في
الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطيف ليقبل ، وكذلك تعليم العلم
ينبغي أن يكون بالتدريج لأن الشي إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه ،
وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالباً الازدياد بخلاف ضده.))
وبعد :
فإن كسب قلوب الناس مهمة ليست
باليسيرة إلا لمن يسرها الله له ؛ ولذا علينا أن نلح على الله بالدعاء ليفتح قلوبنا
و قلوبهم للحق ويجعلنا وإياهم أنصاراً لدينه وحملة دعوته. ومع هذا الدعاء لابد من
الأخذ بالأسباب التي توصلنا بإذن الله إلى كسب القلوب الشاردة ؛ولعل العمل بما
ذكرناه من وسائل واجتناب ما استعرضناه من منفرات يعين على رد تلك القلوب الشاردة ؛
إلى الهدى رداً جميلا ً.
وأخيراً أسأل الله عز وجل أن
ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلنا هداةًًًً مهتدين غير ضالين ولا مضلين وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .